ابتسمت له ونصحته ألا يخوض هذه التجربة، فالصف الأول هو الأصعب، وصراحة لا اعتقد أن طالب قادر على القيام بتلك المهمة، ، لم يكن أحمد طالبا عاديا بالنسة لي، فهو من الطلاب المتفوقين، الذين يجمعون بين الدراسة والعمل في مهنته كنجار كما تشي يده الخشنة، بدون أن يؤثر ذلك على مستواه الدراسي، أصر أحمد على ذلك، قلت له أنه اختياره الشخصي قبل كل شيء، وأنه يتحمل مسؤولية قراره، طبيعة شخصيته الجدية لم اتخيل كيف يمكن أن يتعامل مع طلاب هذه المرحلة. تدريس تلك المرحلة هي أقرب لطبيعة الفتيات، ربما كانت الصفوف الأكبر عمرا أقرب إلى شخصيته
كانت زيارة أحمد في الصف متعة خالصة، ما أن دخلنا إلى الصف حتى بدأت ثورة من الترحيب والتصفيق، وقف في منتصف الصف واضعا يديه في وسطه، اتسعت عيناه محذرا بطريقة كوميدية، ضحك الطلاب وانتظموا في مقاعدهم بسرعة، قبل أن يتكلم كلمة واحدة، اشار بيديه كما يفعل الموسيقار في قيادة الاوركسترا، ومع اشارته انطلق الطلاب في غناء قوي ومتناغم لأنشودة عن ما يدرسونه بالصف، ومع أشارة يديه القاطعة صمت الطلاب جميعا في نفس اللحظة، نظر إلي في ثقة وكأنه يتأكد من مشاهدتي لقدراته على ضبط الصف.
"أين فريق حرف الباء؟"وقف فريق من الطلاب، انطلق أحمد في اغنيته وكلما أشار لأحد الطلاب استكمل مقاطع حرف الباء بطريقة جميلة، بعد ان انتهوا صفق الجميع بما فيهم أنا، حسنا من يذكر لي أغنية أخرى فيها حرف الباء؟ ارتفعت الأيدى متنافسة، وبين الغناء والتصفيق كانت الحصة عبارة عن حالة من المرح، حسنا لدينا اليوم ضيف جديد...صديقي جمال، بأي حرف يبدأ؟ "جيم"صاح الطلاب جميعا في إثارة عرفت سببها بعد برهة، من زاوية الصف أخرج أحمد صندوقه ذي الستائر، اختفى خلفه ليخرج دمية من بين الستائر، مرحبا يا أطفال، مرحبا جمال، حوار فكاهي عن أشياءه التي يجدها في صندوق الأحرف والتي تبدأ جميعها بحرف الجيم، يخرج طالب في كل مرة ويستخرج أحد الصور التي يبدأ اسمها بحرف الجيم، ويقوم بتعليقها على اللوح، من يمكنه أن يكتب أسمي؟ تسابقوا لكتابة الأسم على اللوحة، وهكذا استمرت الحصة بين غناء ولعب، ولكي يتأكد أحمد من اتقانهم للخبرة، وزع عليهم ورقة عمل تتضمن بعض الصور وطلب منهم كتابة أسم كل صورة تحتها، من الواضح أن طريقته تؤتي ثمارها بقوة، لم تكن هناك فروق فردية تذكر في حل أداء الطلاب لورقة العمل، ومع خاتمة رائعة عن أغنية لحرف الجيم اتقنها الطلاب في دقائق معدودة...من أكثر الحصص التي لم أشعر فيها بمرور الوقت، ولا أبالغ إذا ما قلت أنها كانت متعة خالصة.
https://www.facebook.com/mstfy.alshryf2/videos/10206961326343029/
https://www.facebook.com/mstfy.alshryf2/videos/10206961326343029/
بداية يساعد الغناء كنشاط إنساني على تخفيف التوتر ويعمل على نشاط العقل بشكل صحي، كما يؤثر ايجابيا على تأقلم الإنسان مع الظروف المحيطة والشعور بالانسجام ، وتزيد من قدرته على مواجهة المشكلات وحلها، وفي الكثير من المهن(مثل التمريض) يحصل العاملين على برامج "مساقات"وأنشطة تتعلق بالغناء الجماعي ، حيث تشير الدراسات أن لمثل هذه الأنشطة المتعلقة بالغناء دور أساسي في تحسين الصحة النفسية وتقبل شروط العمل، كما أن للموسيقى والغناء استخدامات علاجية متعددة.
وهناك منهجيات متعددة لتوظيف الموسيقى والغناء في البيئة الصفية، إلا أنها جميعا تهدف لخلق حالة ايجابية داخل الطلاب ومناخ مشجع على اتقان خبرات التعلم، واستثارة حماسة ونشاط الطلاب، وتوفير حالة من الاسترخاء العقلي تدعم عملية التعلم، وتعمل على زيادة التركيز وتحسين آليات الذاكرة، والعديد من المزايا لا حصر لها، وبصفة عامة الموسيقى داعم أساسي لعملية التعلم، وبصفة خاصة للمراحل الأولى من التعليم.
نصرة، معلمة أربيعينية، إلا أنك ما أن تتحدث معها حتى تشعر بروح الطفلة الكامنة فيها، الكثير من النقاء والبراءة، واحدة من المعلمات الائي لم يعلمنني فقط، لكن ساعدتني على استكشاف المعنى الواقعي للاتجاه الايجابي في الحياة، قاربت خبرتها العشرين عاما من العمل المدرسي، داخل الصف تكاد لا تفرقها عن "بناتها"كما تدعوهن، صاخبة تصفق وتغني تؤشر بيديها وتدف بقدميها الأرض بدون، كانت الأغنية عن الكائنات الحية ومليئة بالمعلومات العلمية، إلا أن الطالبات كن يحفظنها عن ظهر قلب.
في بداية عملي، تتذكر نصرة، كانت سنوات الانتفاضة، كان البنات يفتقرن إلى التركيز بالحصص وكن يعانين من مشاكل نفسية جمة، هي نفسها كانت تعيش مكتئبة، كان القصف وأصوات الرصاص ومشاهد القتل والتدمير وجبة يومية على شاشات التلفاز، في أحد المرات ناقشتهن في ذلك، كن يحتفظن في ذاكرتهن بتفاصيل مرعبة، سألتهن عم يرغبن في عمله، طلبن أن يختبئن تحت طاولات الدراسة، اختبئت معهن، تذكرت حينما كانت أمها تهدهدا، عشوائيا بدأت في الغناء، بدون ترتيب اختارت فيروز، مع الأغنية التالية بدأن في الغناء معها، وشيئا فشيئا اندمجن في الغناء، أصبح ذلك شغلي الشاغل، البحث عن الأغاني التعليمية وانتقاء الأفضل منها والأكثر مرحا، بدأت كذلك في تأليف الأغاني، ساعدني ذلك بشكل كبير على الخروج عن الواقع اليومي المأساوي.
اكتشفت صبرة أن الأطفال يتعلمون الخبرات التعليمية المغناة بسهولة ويحتفظون بها لفترة طويلة، بشرط أن تكون الألحان جذابة ومرحة وخفيفة، كما أن الأغاني تساعد الطلاب الذين يعانون صعوبات في قراءة المقاطع التعليمية، وتجعل عملية القراءة أكثر سلاسة بالنسبة لهم، وتشجع الطلاب الخجولين على الاندماج في بيئة الصف والتفاعل مع أقرانهم.
ووفقا لخبرات طلابي، يساعد الغناء المعلم والمعلمة المبتدأة على الانخراط في جو العمل الصفي، وتخفف من احساسه بالخوف من الوقوف أمام الطلاب، خصوصا في المرات الأولى، ما أن ينطلق الجميع في غناء جماعي متناغم، حتى تخف وطأة الموقف، ويصبح المعلم أكثر جرأة على تنفيذ ما صممه من أنشطة، كما أن منهم من طور استراتيجيات لضبط الصف "المشاغب"تعتمد على الغناء، من خلال تقسيم الطلاب إلى مجموعات تردد كل منهم مقطع معين وترد عليها الأخرى، مما يساعدهم من جهة على التنسيق بينهم والاعتياد كذلك على قيادة المعلم لهم.
الاستخدام الأكثر احترافية للموسيقى والغناء في الصف، هو تلك الاستراتيجيات التي تعتمد على تنمية الذكاء الموسيقى، وتوظيفه في تحسين عمليات التعليم والتعلم، وقد شاهدت على الأقل معلمتين يستخدمنه بكفاءة، وبالاضافة إلى مهارات الغناء والأداء الموسيقي، يهدف إلى تطوير قدرات التعرف على المقاطع الصوتية والنغمات الموسيقية المختلفةـ والاحساس بالايقاع وتحويل الكلمات والجمل إلى مقاطع ذات إيقاع، واستخدام الموسيقى في التعبير عن الأفكار والمشاعر.
ويمكنني بصفة عامة تقسيم معلمين المرحلة الأساسية إلى نوعين من المعلمين أو المعلمات، أولئك الذين لديهم القدرة على الغناء مع الطلاب، وهم عادة مرحون يستمتعون إلى حد كبير بعملهم ولايشعرون بوطأة العمل المدرسي اليومي، حيث يشكل بالنسبة لهم ترفيه من نوع خاص، بقدر اندماجهم مع طلابهم وطالباتهم، أما الآخرون، المتجهمون، الذين لا يجرؤون على الغناء، فهم وإن لم يقلوا عن نظرائهم كفاءة، إلا أنهم سرعان ما يهرمون، وعادة يشتكون من العمل مع الأطفال، ويشكل كل يوم دراسي جديد عبء يضاف على كاهلهم.