Quantcast
Channel: مدونة تربية حرة - أ.محمد أبو معيلق
Viewing all articles
Browse latest Browse all 87

اليوم الخامس:عن التغير والزمن التربوي

$
0
0
يؤمن الكثير بأن الحقيقة التي يجمع عليها كل البشر ولا يمكنهم انكارها، هي "الموت"، حسنا تلك حقيقة سطحية، فالموت هو مجرد مظهر لحقيقة الوجود الإنساني على الأرض، وهو التغير، الموت ما هو تجسيد لحالة من حالات التغير، فالتغير يحدث في كل لحظة في حياتنا، داخل أجسادنا وفي العالم المادي والفضاءات الاجتماعية، حالات تغير وتبدل وانتقال، الحياة سيال ضخم وهادر، تلك حقيقة لا يمكن إنكارها كما لا يمكن إنكار حقيقة الموت، التغير هو القانون الحاكم لوجود البشر على الأرض.

إيماننا بتلك الحقيقة يضعنا في مأزق أمام تصورنا للزمن التربوي، ذلك التناقض تناقض بين اللحظات الراهنة والماضية والقادمة، بين الماضي الذي نمثله كمعلمين، والحاضر الذي نقوم بالتعليم فيه، والمستقبل الذي يمثله طلابنا، ذلك المأزق الذي يجبرنا كمعلمين في اللحظة الحالية أن نقوم بتدريس معلومات تنتمي للماضي، معتقدين أننا من خلالها نعد طلابنا للمستقبل، لهذا السبب تحديدا يجب على المعلم ألا يعتمد المعلم على أرثه، سوء ما قد تعلمه من معلومات أو ما يتقنه من أساليب، لأن ذلك سيسجنه وطلابه في لحظة ماضية، كما يحتم عليه أن يعد الطلاب بما يتناسب ومستقبل غير مكتمل الرؤية، أي تطوير قدرتهم على اكتشاف القادم والتعامل معه.


الغريب أن تلك الحقيقة تغيب عن كثير من المعلمين أثناء ادائهم لعملهم، لا يعتقدون بالتغير الحادث في شكل التعليم وطرقه ومجالاته، يدرسون الطلاب حقائق درسوها هم أنفسهم وقت كانوا على مقاعد الدراسة، تقريبا بنفس الطريقة التي درسوها بها، أي أنهم حيال تدريس طلابهم يحذفون عشرات السنوات من التاريخ، ويثبتون وعيهم عند لحظة تم تجاوزها تاريخيا واجتماعيا وعلميا، لا يأبهون لكل ذلك التغير الذي حدث في النظريات التربوية والتطور في طرائق التدريس والتعلم، ولا يلقون بالا لكل تلك الثورة الحادثة في مصادر المعرفة.

في أحد الدروس التي كنت أحضرها للصف الثالث تقريبا، سألت المعلمة في أي فصل من فصول السنة نحن؟، كانت اجابة الطلاب "الربيع"، وبماذا يتميز فصل الربيع؟ الجو دافيء وتتفتح الأزهار وتكثر الطيور والرحلات، طبعا نظرة واحدة من النافذة كانت كافية لاثارة الضحكات، كنا نعيش شتاء متأخر، أمطار كثيفة وغيوم ورعد وبرق، نعم سيدتي وقت كنت أنت نائمة في كبسولتك الزمنية، حدث تغير مناخي هائل في كوكب الأرض، ذلك التغير الذي حذرونا من أنه قادم بعد عشرات السنين، هاهي عشرات السنين قد مرت ونحن نعيشه الآن، ولما كان واضع المنهاج مازال يعيش في نفس الكبسولة الزمنية، فلم يجد مانع من تقديم نفس المعلومة بنفس الطريقة التي كانت قبل عشرات السنين، تحت دعوى: وهل تتغير فصول السنة؟ نعم لقد تغيرت إلى غير رجعة إذا كنت تحيا معنا على نفس الكوكب.

من أولى زياراتي لأحدى طالباتي، كانت الحصة تجسيد لكل ما كرهته في الحصص المدرسية، معلمة تقف مرهقة أمام الصف، تبدأ في القاء الدرس على الطلاب بطريقتها المملة، وبين الفنية والأخرى تتوقف لتسأل الطلاب بعض الأسئلة عن المعلومات التي ألقتها توا، ويجب على الطالب أن يجيب مثلما قالت بالضبط، أي أجابة مخالفة تعتبر خاطئة، يمكن ملاحظة مدى ملل حصة من متابعة الطلاب لعقارب الساعة الموضوعة على الحائط، كم الأدوات التي يسقطها الأولاد على الأرض، المحادثات الجانبية وتبادل الجذب بين الطلاب وبعضهم، كان كل هم المعلمة هو ضبط الصف من منظورها، صراخها بين الفنية والأخرى لجذب انتباه أحد الطلاب، شمس..قمر..شمس..قمر، يا الهي....لم يتغير شيء منذ كنت على مقاعد المدرسة..تلك ثلاثون عاما وأكثر.

حاولت أن اضبط أعصابي أثناء توجيهي للطالبة، بدأت بسؤالها عن وقت الحصة كم شغلت منه وكم شغل الطلاب منه، إذا لم يكن هناك تفاعل من الطلاب، لكني كنت أوجه إليهم أسئلة وكانوا يجيبون، ذلك ليس تفاعل إنه أقرب إلى التحقيق البوليسي، طالما كانت هناك إجابة واحدة صحيحة تبحثين عنها، ثم لماذا كل هذا الصراخ، لابد للمعلم أن يحافظ على الضبط، أي ضبط! إنهم أولاد بعمر السادسة أو السابعة، من الطبيعي أن يتحركون ويمزحون وإلا فإن هناك أمرا على غير ما يرام فيهم، دوري كمعلم هو توظيف ذلك النشاط لا كبته...ما المهارات التي تعتقدي أن الطلاب مارسوها بخلاف الترديد خلفك؟

هنا تدخلت المعلمة المتعاونة، معلمة خمسينية، بدأت في الدفاع عن ممارسات الطالبة المتدربة، أو بمعنى أصح تدافع عن ممارساتها الخاصة التي تقتبسها الطالبة المتدربة، كانت نبرة الغيظ تتصاعد في صوتها، هي ترفض ما كنت أقوله جملة وتفصيلا، ليس لاعتقادها بخطئه بقدر دفاعها عن الممارسات التي تتمرس خلفها منذ عدد من السنين يعلمه الله وحده، محتوى الكتاب هو فقط الجدير بدراسته من قبل الطلاب، وأي خروج عن صفحات الكتاب هو خروج عن النص، وإلا فلم أقرته الوزارة! الدور الأساسي للمعلم هو الضبط، المعلم الجيد هو القادر على الضبط بشكل أفضل، هيبة المعلم تتمثل في استجابة الطلاب لأوامره، المهارات المطلوبة من الطلاب هي القراءة والكتابة والجمع والطرح، هذا هو دور المعلمة في إعداد الطلاب للتعلم في المراحل القادمة.

كثيرا ما أصادف معلمين أو معلمات يتمثلون هذه الأفكار، والحمد لله أظنهم لم يعودوا أغلبية، وهم حرفيا "متحجرون"خلف هذه القناعات، ومهما تغيرت الظروف التربوية أو المجتمعية حولهم، فمن الصعب أن يستجيبوا لها إلا في الحدود الشكلية، أو بما لا يتجاوز دفتر التحضير في الكثير من الأحيان، ولنأخذ مثال على ذلك من التوجهات التعليمية الحديثة التي تم إقرارها بشكل واقعي، معلم الصف.

الفكرة الأساسية  وراء مفهوم "معلم الصف"لا تقتصر على وجود معلم واحد يدرس جميع العلوم، بل تتعدى ذلك الفهم نحو دور المعلم في صياغة خبرات ذات جوانب تعليمية متعددة، الهدف منها هو التكوين الشامل للمتعلم، بعيدا عن القسمة غير المفهومة بين الجوانب الشخصية والوجدانية والمعرفية والمهارية، والفصل بين ما هو لغوي وما هو حسابي وما هو علمي بالمعنى الضيق للكلمة، التفرقة الحادة بين الطبيعة والفن واللغة والقيم والجغرافيا والجسد والروح، أما رد فعل الكثير من المعلمين لهذا التغير فهو سحبه إلى منطقة الجمود والتقليد، يقوم المعلم بدوره كمعلم صف باعتبار ذاته مجموعة من المدرسين غير المتعاونين، يتقمص شخصية مدرس اللغة العربية في حصة اللغة العربية، ومع دخول حصة الرياضيات يرتدي قناع مدرس الرياضيات، يطلب من الطلاب سحب كتب اللغة العربية وفتح كتب الرياضيات وكأن معلما جديدا قد دخل إلى الصف، وهكذا يقوم بإفراغ الفكرة من معناها، والحجة جاهزة طبعا أن المنهاج لا يسمح بغير ذلك، لا أنكر أبدا أن المنهاج تعس، إلا أن تجربتي تخبرني أن المنهاج لا يعدا قيد إلا لمن يقرر أنه قيد عليه.

والغريب هو أنه ما أن أبدأ حوار مع المعلمين حول التغيير، حتى ينصب جل حديثهم عن التكنولوجيا وعدم وفاء الوزارة بحاجات المدارس من بنية تحتية وأجهزة، ذلك ليس هو جوهر التغيير، هناك تغيرات اجتماعية لن تحلها التكنولوجيا، هناك تغيرات سياسية واقتصادية ومعرفية وحتى مناخية لن تحلها التكنولوجيا، القصة ليست أبدا في التكنولوجيا بل في العقول خلفها، في أنماط التفكير التي توظف التكنولوجيا في تطوير الأفكار وحل المشكلات، غير ذلك مجرد هدر للإنفاق على أجهزة وأدوات وتقنيات، وآلاف ساعات التدريب، لاستخدام التكنولوجيا فيما يمكن أن يتم بدونها.


احتفظ بجملة صديقي العبقرية، التي تلخص واقع نظامنا التعليمي واستجابته للمتغيرات في عصرنا الحالي (نظامنا التعليمي الحالي رائع، فقط بمعايير العام 1915)، إن معضلة الزمن التربوي إنه لا يتعلق بالماضي ولا بالحاضر، إنه دائما يكمن في المستقبل، المستقبل الذي لا يمكن خوضه بعقول ماضوية، تتجاهل كل ما حولها من تغيرات وتعتبر  الفرق بين اللام الشمسية واللام القمرية محور منهاج اللغة العربية، المستقبل الذي هو بالنسبة لنا كمربين مجهول تماما، فهل يساعد تدريسنا الطلاب للتعامل معه؟ أظن أن في إجابة هذا السؤال تكمن رؤيتنا لكل ما نقوم به من تعليم.

Viewing all articles
Browse latest Browse all 87

Trending Articles