المعلم ذو البعد الواحد
One-dimensional Teacher
(1)
يعد مصطلح "الإنسان ذو البعد الواحد"واحد من أهم المصطلحات النقدية في القرن العشرين، والذي صاغه المفكر الألماني "هيربرت ماركيوز"Herbert Marcuseليدلل به على طبيعة الإنسان الذي تخلقه الرأسمالية المعاصرة، نمط الفرد الاستهلاكي المؤمن بدوره كمنتج ومستهلك، إنه الإنسان "الأداتي"أي الذي يتحول لأداة في يد النظام/ المجتمع لتحقيق وظيفة مادية محددة، بدون التساؤل النقدي عن جدوى أو أهمية ما يقوم به، ومدى اتساقه مع تكوينه النفسي.
وعلى الرغم من زوال الشروط الحضارية المصاحبة لنشوء المصطلح في بيئته الأصلية (الحضارة الغربية)، إلا أنه مازال صالح للاستخدام لتفسير الكثير من الظواهر المجتمعية في الوطن العربي ، للعديد من الأسباب التي أدت لتشابه الظروف الحضارية، وأهمها تغول اليمين المتمثل في التحالف بين الجماعات المسيطرة سياسيا واقتصاديا، وتبنيها لخلق ظروف واقعية يتوارى فيها القمع الأمني خلف القمع "الناعم"، لإحكام السيطرة وفق تشكيلة معينة، والتي يلخصها د. عبد الوهاب المسيري في عبارته "غياب الحرية في إطار ديمقراطي سلس معقول"، أو قدر من هذا وذاك، وهو ما يحتاج تفصيله إلى مدخل مستقل، لذلك سيقتصر تحليل اليوم على تطبيقات الظاهرة في ميدان التعليم، أو على أحد جوانبها، وهو "المعلم ذو البعد الواحد".
حيث يتمركز المعلم في ظل تلك الأنظمة حول بعد واحد، وهو بعد "الوظيفة"، والتي تعني بأبسط معانيها، قضاء عدد من الساعات شهريا، يقوم خلالها بمجموعة من المهام، المنصوص عليها في اللوائح، نظير أجر شهري محدد، وفي ظل هذه المنظومة، يخضع المعلم لسيطرة وهيمنة من القوى المركزية المسيطرة على التعليم (المركزي بدوره)، وعلى الرغم من بساطة تلك المعادلة وخلوها من التعقيد، إلى الحد الذي تبدو فيه محايدة بعيدة عن الغموض أو التحيزات، إلا أنها في جوهرها معادلة مخادعة وتمييزية، تهدف لتثبيت الوضع القائم، والذي هو إنسانيا ومهنيا وطبقيا في غير صالح المعلم.
المجال الوظيفي للمعلم ذو البعد الواحد
إذا ما أردنا تحديد مهمات المعلم الحقيقي، فإنها تعني من حيث المبدأ الشخص المكلف برعاية النمو الشامل للمتعلم، وإثارة وعيه وتنمية قدراته إلى الحد الأقصى، مساعدة الإنسان في موقع الطالب على استكشاف ذاته والعالم، توجيهه إلى تبني موقف من التاريخ والثقافة والحضارة والعلم، ومن كل ما هو جوهري في حياته، ومن ناحية عملية مساعدة الطالب على اكتساب المهارات التي تؤهله لاستيعاب معارف عصره، والحياة في المستقبل، بما يتضمن امتلاك المهارات المعرفية والشخصية التي تسمح له بمواصلة دراسته إلى مستويات أرقى في تخصص ما، والقدرة على الوصول إلى سوق العمل.
قد يكون هذا كله أو أكثر أو أقل، إلا أنه بالمجمل لا يتضمن أيا من ذلك في الوصف الوظيفي لمهنة المعلم، أو لنقتصر على المعنى الوظيفي لها، المدرس، حيث تقتصر الوظيفة على مجموعة من الأعباء اليومية والأسبوعية والفصلية (السنوية)، والتي تتشكل من ألاف التفصيلات الفنية والورقية، التي تعزل المعلم عن القدرة على التأمل فيما يقوم به حقا، أو في مقدار التقاطع بين هذه الأعباء وبين ما يميز دور المعلم الحقيقي، والتي يمكن الجزم بأنها لا تحدث هنا بشكل حقيقي ومخطط، وبالتالي فإن مساهمة المجال الوظيفي للمدرس في تحقيق واجباته كمعلم لا تحدث إلا بشكل عرضي، وبالصدفة.
ويلعب الوقت عامل حاسم ضد المعلم، وفقا لجدولة زمنية مبرمجة تبقي المعلم محاصرا بعدد لا متناهي من الدروس غير القابلة للإنجاز في الوقت المحدد، مما يجعل من أية محاولة لتعميق التعلم أمرا غير قابل للتحقق، ويتخذ الوقت هنا أيضا مفهوم وظيفي، حيث يرتبط بساعات دوام محددة ومعلبة "مقسمة"بشكل مسبق (زمن الحصة، مدة الفصل الدراسي، عدد ساعات العمل الأسبوعية....)، لا يتساءل المعلم هنا عن مدى جدواها أو أهمية ذلك التقسيم، إنما يتعامل معه على نحو مطلق باعتباره واحدا من تدابير القدر، غير القابلة للتساؤل عنها.
ونفرق هنا بين التساؤل باعتباره فعل نقدي وإيجابي، وبين التذمر باعتباره تصرف سلبي، فالشكوى من عدد ساعات العمل الأسبوعية أو مدى كفاية الزمن المخصص للحصة الدراسية أو طول فترة اليوم الدراسي، غير المصحوبة بفعل يمكن أن يحدث تغييرا على السابق، نادرا ما تحدث تأثيرا على صناعة القرار، بل هو مجرد انتظار فعل ما من شخص آخر يمكنه تغيير ذلك، ومع الزمن يصبح التذمر، بغض النظر عن كون أسبابه حقيقية أو لا، عادة عند المعلم، تماما مثلما يعتاد نفس الظروف التي تسبب التذمر.
عنصر آخر يصبغ عمل المعلم في هذا التصنيف، وهي البعد الواحد للوظيفة، الممارسة الحرفية المتقنة لعمل تكراري يتحرك في رقعة محددة من المهنة، لا يتيح له النظام أي تنوع في طبيعة العمل، وغالبا ما يستسلم لهذه الرقعة المحدودة، وشيئا فشيئا يستسلم لها بل ويلتزم بها، ويرى في أي محاولة لإخراجه منها عملا مستهجنا، والغريب هو أن ذلك المحور تحديدا ما يشكل دوما أحد نقاط الهجوم من النظام التربوي ضد المعلمين كمجموع، عدم قدرتهم على المواءمة مع التغيرات الحادثة في التعليم، مع أنه هو من حصرهم في ذلك المربع ابتداء.
ويقف "المعلم ذو البعد الواحد"وحيدا في مواجهة السلطة التربوية من جهة، والأعباء المكلف بها من جهة أخرى، ما يجعله باستمرار محدود التأثير على الجهتين، فلا هو يملك القوة اللازمة للتفاوض مع السلطة التربوية بخصوص الأعباء والاحتياجات، ولا هو يملك العزم اللازم لإحداث التغيير الممكن في مجال عمله، وهو ما ينشأ بالضرورة عن "فردية"العمل المدرسي، حيث غالبا ما يتم العمل داخل المدرسة بشكل منفرد، ويتخذ التعاون منحى شخصانيا لا مؤسساتيا، في الحين الذي تتسم فيه العلاقات المهنية بالفتور، وبالتالي فإن المهمات التي تتطلب عملا جماعيا (الربط بين الموضوعات العلمية في مقررات مختلفة على سبيل المثال) والمشكلات التي لا يمكن حلها إلا بتضافر الجهود (التراجع الدراسي مثلا) لا تجد مجالا حقيقيا للتنفيذ، وحتى على مستوى الأجسام التنظيمية للمعلمين، فإنها تصرف جهدها غاليا في متابعة المشكلات الإدارية أو المطالبات المالية، ولا تنفذ فعليا إلى فنيات العمل التعليمي.
إذا وبشكل إجمالي، فإن "المعلم ذا البعد الواحد"هو إنسان معزول حقيقة عن سياق الفعل إلا في حدود الإجراءات المتاحة، وبالتالي فهو معزول عن دائرة التأثير المجتمعي، ولا يمكن باعتباره بحال من الأحوال عنصر مؤثر في صناعة التغيير، أو عامل حاسم من عوامل التطور، إنه الموظف في موقع المعلم، إنه الإنسان "الأداتي"، أي الذي تحول إلى أداة في يد المؤسسة، وهو بالضرورة تابع لها غير مؤثر فيها، ولا يتوقف ذلك عند حدود الوظيفة، إنما يتعداها إلى السياق الاجتماعي الذي يفقد فيه المعلم أي تقدير أو حظوة، وهو ما سنناقش انعكاساته المعرفية والأخلاقية والاجتماعية في المقالات القادمة.