Quantcast
Channel: مدونة تربية حرة - أ.محمد أبو معيلق
Viewing all articles
Browse latest Browse all 87

اليوم الخامس: في البدء كان المعلم

$
0
0
في البدء كان المعلم

الدنيا برد......الدنيا برد
وعم خليل بيسقي الورد

استمعت إلى هذه الأغنية ألاف المرات منذ صغري، لكنني لم أفهم معناها حقا إلا في صباحات الأربعاء الشتوية الباردة، حيث اضطر إلى أن استيقظ مبكرا وأغادر المنزل قبل موعدي المعتاد بأكثر من ساعة، لأتمكن من الوصول إلى المدرسة المنشودة مع بداية اليوم الدراسي، وإلا فلن أتمكن من التقدم في زياراتي حسب جدولي الخاص ، والذي حاولت من خلاله بعناية أن أجمع الطلاب في القرى القريبة لبعضها، وتم ترتيبه هاتفيا معهم، متبرما من ذلك العمل والاستيقاظ المبكر أقابل ابتسامتهم المتحفظة وهمتم الدؤوبة

مشهد المعلمين الصباحي معتاد إلى درجة غياب روعته عن عين الرائي، هؤلاء النساء والرجال يخرجون من بيوتهم يوميا قبل الجميع، وفي ذهنهم نية واحدة غالبا، تعليم ابنائنا، هكذا ببساطة، كل تلك الشعارات التي يرددها المسؤولون والرسميون عن أجيال المستقبل وتربية النشء و.....و......، هم ليسوا في حاجة لها، إنهم يمارسونها بشكل يومي واعتيادي، يمزحون في فراغ السيارة الضيق يتباهون بما قام به كل واحد من أنشطة مع صفه "ألم تشاهدي ذلك.....لقد وضعته بالأمس على الفيسبوك"، يتبادلون الخبرات في حديث عادي قبل حتى فنجان القهوة الأول، بينما نتباهى نحن الأكاديميون دائما بالأبحاث والمؤتمرات والزيارات، إلا أننا نادرا ما نشير إلى أي نشاط مختلف قمنا به مع طلابنا، "أنا"الأكاديمية تذوب في "نحن"و"هم"التعليمية،  إن هؤلاء القوم عظماء في بساطتهم


تسأل معلمة "بديلة"زميلاتها عن كيفية انسحابها من العمل بعد الحصة الثالثة لتصطحب ابنها المريض إلى الطبيب، تطمئنها زميلاتها إلى امكانية ذلك، ويقدمن لها رقم سائق يمكنه أن يصطحبها مباشرة بعد انتهاء الحصة، ذلك ليس حديثا عرضيا أو هامشيا، غياب المعلم هو أمر خطير يحتاج إلى ترتيبات مسبقة، في مقابل نظرة موظف الزجاجية اللا مبالية وهو يخبرك أنك لن تتمكن من اتمام معاملتك اليوم لأن زميله متغيب، مع عدم علمه بامكانية أن يختلف الوضع غدا، فإن غياب المعلم يعني بقاء عدة صفوف لحصص متتالية بدون معلم، وهو يتطلب "تدبيرا بهلوانيا"من المدير ليستطيع تدبير معلم أو معلمة تحل محل المعلم الغائب، لا شيء يكرهه مدراء المدارس أكثر من معلم غائب أو  أم متعالية غاضبة، كما أن غياب المعلم ولو ليوم واحد يشكل عائقا له عن التقدم في منهجه الدراسي وفق المخطط المرسوم، لا شيء يكرهه المعلمون بقدر "حصص أو أيام التعويض"، واظن الطلاب يشاركونهم ذلك.

يا ناس شقايا من أجل غاية
عايز قلوبكم دايما معايا
علشان اشقر على الورد واقدر
وأفضل مشمر والدنيا برد

أعشق تلك اللحظات حينما يتحرج مدير المدرسة أو مديرتها من الحديث أمامي، ثم لا يلبث أن ينطلق في حواره عبر الهاتف أو الأشخاص أمامه، عاصرت في مثل هذا الموقف كفاح مديرة في قرية من قرى رام الله من أجل تأمين وجبة أفطار يومية للطلاب في المدرسة، لم تترك جهة أو  شخص لم تتواصل معه وتشركه في الأمر، شعرت أن لا شيء يمكنه من ايقافها حتى تحقق غايتها، في قرية أخرى متوارية، جمع المعلمون قروشهم القليلة سويا ليتمكنوا من إدخال الانترنت إلى مختبر المدرسة، "الآن يستطيع طلابنا أن يتواصلوا مع مصادر المعرفة العالمية"قالت معلمة اللغة العربية بفخر وهي تستعرض، طلاب الصف الثالث الذين لا يملك معظمهم حواسيب منزلية، وهم يبحثون عن معاني الكلمات عبر الشبكة العنكبوتية، يتذكر المدير ضاحكا كيف أن كل حاسوب في المختبر كلفه عشرات الساعات من التحدث إلى أهالي الطلاب ووجهاء القرية، متزاحمات في فراغ الغرفة الضيق، متلاصقات على المقاعد أو جاثيات على ركبهن، أتذكرهن وهن يعملن بإصرار في المواد المتراصة كالتل أمامهن، كان هاجسهن أن يتمكن من افتتاح مختبر الرياضيات في مدرستهن قبل انتصاف الفصل الدراسي.

المعلم (أو المعلمة) إنسان متذمر....كانت تلك قناعتي قبل أن أنخرط في أجواء المدارس، لم تتغير تلك القناعة كثيرا إلا أنني أصبحت أكثر تفهما لأسباب ذلك التذمر، بل وأقدره ، فالوقت محدود والامكانات غير كافية والمنهاج ضخم – وغير مقنع في الكثير من الحالات-  والطلاب كثر وحاجاتهم مختلفة والمهمات الروتينية والورقية لا تنتهي، ويدرك المعلمون إن كل ذلك ليس لب المطلوب منهم حقا، بل ما يجب عليهم أن يجابهونه ليتمكنوا من الإيفاء برسالتهم الأصلية، توفير بيئة دراسية تمكن الطلاب من تطوير  شخصياتهم ومهاراتهم الذاتية، يبقيهم ذلك في حالة من الشكوى المستمرة بحثا عن واقع أفضل لتحقيق مصلحة طلابهم.

تجبرني التجربة على التمييز بين المعلم والمدرس، فبينما الأول هو تجسيد لرسالة يؤمن بها، فإن الأخير هو شخص أختار مهنة التدريس باعتبارها مصدر لدخل ثابت مقابل ساعات عمل محدودة، لا عيب في أن يختار الإنسان مهنة لتأمين دخله، إلا أن من الغريب أن يختار الإنسان من التدريس سبيلا لذلك - الأقل أجرا مقابل ساعات العمل والأكثر ارهاقا- ثم يشتكي قلة الراتب... أي مهنة حرة أخرى ستكون مصدر للدخل بشكل أكبر، لذلك يبقى المدرس يتقدم في شكل خطي، وظيفيا غالبا لا مهنيا، وتبقى مهاراته غالبا محصورة فيما اكتسبه من عامه الأول، والنزر اليسير من أي برنامج تدريبي "مفروض"عليه، أما المعلم فتبقى حركته غير محدودة، يمينا ويسارا، إلى الأمام وإلى الخلف، إلا أنها دوما إلى الأعلى.

أنا بنادي...حلوة السنة دي
والفجر نادي....والدنيا برد

يبدأ المعلمون عادة عامهم الدراسي بتكاسل، وبنوع حتى من الاستسلام القدري، يجترون فيها آخر أحداث العام المنصرم وبقايا الأجازة الصيفية، متفاجئين ومرتبكين من القواعد الجديدة الصادرة أو المتوقعة من الوزارة والإدارات التعليمية، باحثين عن مبرر لها أو ناقدين لتلك المبررات، يحتاج الأمر لأسبوعين كاملين تقريبا لتصل لياقتهم الذهنية إلى وضع الإطلاق واستعادة ذاكرة التدريس، سيفاجئك أنهم لم يكونوا مسترخين تماما وبعيدين عن الجو بشكل مطلق، كان هناك شيئا ما يتطور في الخلفية.

اتطرق أحيانا في حديثي مع الطلاب إلى أهمية التأمل في الخبرات السابقة لمحاولة تطويرها، باعتباره واحد من الممارسات الحديثة اللازمة للمعلم، تجيبني المعلمة المدربة "ولكن هذا ما نقوم به دائما، وإن غالبا بشكل غير واعي"، المعلم يبقى معلم، في ساعات الدوام وخارجها، في الصيف والشتاء، في الأجازات والعطل القومية والدينية، مع طلابه وأصدقائه وابنائه وأهله

يا ناس سيبونى لاتعطلونى
وتعالوا بكرا يا نور عيونى
اديكوا وردة اوراقها فاردة
اما النهاردة الدنيا برد

المحافظة هو السمة المميزة للمعلمين، محافظين في ملابسهم وكلماتهم وأفكارهم وسلوكياتهم، لذلك يمكنك أن تميزهم من مظهرهم،  يسجل وعيهم مراقبة أعين الآخرين لهم، كبارا وصغارا، والنظر لهم باعتبارهم مثالا سلوكيا، ينعكس ذلك في كل حركاتهم تقريبا، لذلك فالمعلمون لا يقودون التغيير، إلا أنهم يرعونه ببطء يوما بعد يوم.

بكل قناعة وبحكم خبرة أصبحت شبه يومية، لم أقابل إلا فيما ندر معلما متواني، وبقدر ما نختلف معهم أو ننتقدهم، إلا أن كل معلم قابلته، كان يبذل الحد الأقصى من جهده خلال عمله، يمكن أن نتجادل حول ما يجب أن يكون عليه هذا الحد الأقصى، أو حول ما إذا كان ما يقومون به هو ما يجب أن يتم فعلا،  إلا أنه فلا جدال أنهم لا يتوانوا عن العمل المتواصل، من أجل مصلحة الآخرين..

الله يخلي شقاك وفرحك

وتملي تضحك والدنيا برد



Viewing all articles
Browse latest Browse all 87

Trending Articles